فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأقول: إِنَّ مِنْ سَقَطَاتِ ابْنِ جَرِيرٍ اخْتِيَارُهُ لَهُ، وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى بُطْلَانِ سَائِرِ الْأَقْوَالِ الَّتِي رَوَاهَا فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا بِقوله تعالى: {لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ} وَزَعْمُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ عَدَاوَةَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَفَارِسَ وَالْمُنَافِقِينَ لَهُمْ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَأَمَّا نَقْضُ قُرَيْظَةَ لِلْعَهْدِ فَقَدِ اعْتَذَرُوا عَنْهُ فَقَبِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُذْرَهُمْ وَلَمْ يُعَامِلْهُمْ مُعَامَلَةَ الْأَعْدَاءِ وَلاسيما عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ عَقِبَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَأَمَّا الْفُرْسُ فَلَمْ تَكُنْ عَدَاوَتُهُمْ تَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ لَمْ يَكُونُوا يُعَدُّونَ مِنَ الْأَعْدَاءِ الَّذِينَ يُرْهَبُونَ بِإِعْدَادِ قُوَى الْحَرْبِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ، إِذْ لَمْ يَفْضَحِ الْوَحْيُ كُفْرَ الْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَبَقِيَ بَاقِيهِمْ عَلَى ظَاهِرِ إِسْلَامِهِ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ نَقْلِ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ وَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ غَرِيبٍ: وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَهَذَا أَشْبَهُ الْأَقْوَالِ وَيَشْهَدُ لَهُ قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [9: 101] اهـ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِالْوَقْفِ عَنْ تَعْيِينِهِمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} وَلَكِنْ عَدَمُ عِلْمِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ لَا يُنَافِي هَذَا الْعِلْمَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ الْعِبَارَةَ تَشْمَلُ كُلَّ مَنْ ظَهَرَتْ عَدَاوَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمِنَ الْمُبْتَدِعِينَ فِي دِينِهِ الْكَارِهِينَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ بَعْدَ نَقْلِ عِبَارَةِ السُّهَيْلِيِّ.
وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي التَّعْلِيلِ: ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَرَ مَا لِأَجْلِهِ أَمَرَ بِإِعْدَادِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَقَالَ: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ كَوْنَ الْمُسْلِمِينَ مُتَأَهِّبِينَ لِلْجِهَادِ وَمُسْتَعِدِّينَ لَهُ مُسْتَكْمِلِينَ لِجَمِيعِ الْأَسْلِحَةِ وَالْآلَاتِ خَافُوهُمْ، وَذَلِكَ الْخَوْفُ يُفِيدُ أُمُورًا كَثِيرَةً: (أَوَّلُهَا) أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ دَارَ الْإِسْلَامِ.
(وَثَانِيهَا) أَنَّهُ إِذَا اشْتَدَّ خَوْفُهُمْ فَرُبَّمَا الْتَزَمُوا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ جِزْيَةً.
(وَثَالِثُهَا) أَنَّهُ رُبَّمَا صَارَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ (وَرَابِعُهَا) أَنَّهُمْ لَا يُعِينُونَ سَائِرَ الْكُفَّارِ.
(وَخَامِسُهَا) أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَزِيدِ الزِّينَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
ثُمَّ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ: وَالْمُرَادُ أَنَّ تَكْثِيرَ آلَاتِ الْجِهَادِ وَأَدَوَاتِهَا كَمَا يُرْهِبُ الْأَعْدَاءَ الَّذِينَ نَعْلَمُ كَوْنَهُمْ أَعْدَاءً، كَذَلِكَ يُرْهِبُ الْأَعْدَاءَ الَّذِينَ لَا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ أَعْدَاءٌ، ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُنَافِقُونَ- وَبَيَّنَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
(الْأَوَّلُ) أَنَّهُمْ إِذَا شَاهَدُوا قُوَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةَ آلَاتِهِمْ وَأَدَوَاتِهِمُ انْقَطَعَ طَمَعُهُمْ مِنْ أَنْ يَصِيرُوا مَغْلُوبِينَ، وَذَلِكَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى أَنْ يَتْرُكُوا الْكُفْرَ فِي قُلُوبِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ وَيَصِيرُوا مُخْلِصِينَ فِي الْإِيمَانِ.
(الثَّانِي) أَنَّ الْمُنَافِقَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَتَرَبَّصَ ظُهُورَ الْآفَاتِ، وَيَحْتَالَ فِي إِلْقَاءِ الْإِفْسَادِ وَالتَّفْرِيقِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا شَاهَدَ كَوْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ خَافَهُمْ، وَتَرَكَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ الْمَذْمُومَةَ. اهـ.
وَكُلُّ مَا قَالَهُ حَسَنٌ وَصَوَابٌ إِلَّا قَوْلُهُ بِتَرْكِ الْمُنَافِقِ لِلْكُفْرِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ إِلَخْ. فَفِيهِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُوَطِّنُ نَفْسَهُ عَلَى أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ حَتَّى يُرْجَى أَنْ يَصِيرَ مُخْلِصًا بِظُهُورِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ لَهُ بَعْدَ خَفَائِهَا عَنْهُ بِتَوَقُّعِهِ هَلَاكَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالُوا: الْعِلْمُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ مِنَ الْبَسَائِطِ، أَيْ لَا تَعْرِفُونَ ذَوَاتِهِمْ وَأَعْيَانَهُمْ. وَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ عَدَمِ إِسْنَادِ الْمَعْرِفَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى. أَوْ وَصْفُهُ بِهَا خَاصٌّ بِلَفْظِهَا، أَوْ بِمَا يُشْعِرُ بِمَا خَصُّوا بِهَا مَعْنَاهَا مِنْ كَوْنِهِ إِدْرَاكَ الشَّيْءِ بِتَفَكُّرٍ وَتَدَبُّرٍ لِأَثَرِهِ، كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ لَا تَعْلَمُونَهُمْ مُعَادِينَ لَكُمْ، وَيُعَلِّلُهُ مَنْ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ بِأَنَّهُمْ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ وَأَتْقَنُوهُ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ مَا يَفْضَحُهُمْ فِيهِ.
أَقُولُ: وَهَذَا التَّقْيِيدُ لِإِعْدَادِ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ بِقَصْدِ إِرْهَابِ الْأَعْدَاءِ الْمُجَاهِرِينَ وَالْأَعْدَاءِ الْمُسْتَخْفِينَ وَغَيْرِ الْمَعْرُوفِينَ- وَمَنْ سَيَظْهَرُ مِنَ الْأَعْدَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْفُرْسِ وَالرُّومِ- دَلِيلٌ عَلَى تَفْضِيلِ جَعْلِهِ سَبَبًا لِمَنْعِ الْحَرْبِ عَلَى جَعْلِهِ سَبَبًا لِإِيقَاذِ نَارِهَا، فَهُوَ يَقُولُ: اسْتَعَدُّوا لَهَا لِيَرْهَبَكُمُ الْأَعْدَاءُ عَسَى أَنْ يَمْتَنِعُوا عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى قِتَالِكُمْ، وَهَذَا عَيْنُ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ دُوَلِ هَذِهِ الْأَيَّامِ بِالسَّلَامِ الْمُسَلَّحِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضَّعْفَ يُغْرِي الْأَقْوِيَاءَ بِالتَّعَدِّي عَلَى الضُّعَفَاءِ، وَلَكِنَّ الدُّوَلَ الِاسْتِعْمَارِيَّةَ تَدَّعِي هَذَا بِأَلْسِنَتِهَا وَهِيَ كَاذِبَةٌ فِي دَعْوَاهَا أَنَّهَا تَقْصِدُ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ حِفْظَ السَّلْمِ الْعَامِّ، وَكَانَ يُظَنُّ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ السَّلْمَ الْخَاصَّ بِدُوَلِ أُورُبَّةَ، وَأَنَّ الْحَرْبَ امْتُنِعَتْ مِنْهَا، فَأَبْطَلَتْ ذَلِكَ الظَّنَّ الْحَرْبُ الْعَامَّةُ الْأَخِيرَةُ الَّتِي كَانَتْ أَشَدَّ حُرُوبِ التَّارِيخِ أَهْوَالًا وَتَقْتِيلًا وَتَخْرِيبًا، وَالْإِسْلَامُ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَعَبُّدُ النَّاسِ بِهَذِهِ النُّصُوصِ تَعَبُّدًا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى آيَةُ السَّلْمِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ الْآيَةَ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَضَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُعِينُ عَلَى الْقِتَالِ فَقَالَ: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أَيْ: وَمَهْمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ نَقْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهَ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا فِي إِعْدَادِ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمُرَابَطَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ يُعْطِكُمُ اللهُ جَزَاءَهُ وَافِيًا تَامًّا {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّكُمْ لَا تُنْقَصُونَ مِنْ جَزَائِهِ شَيْئًا، أَوْ لَا يَلْحَقُكُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ظُلْمٌ وَلَا اضْطِهَادٌ مِنْ أَعْدَائِكُمْ؛ لِأَنَّ الْقَوِيَّ الْمُسْتَعِدَّ لِمُقَاوَمَةِ الْمُعْتَدِينَ بِالْقُوَّةِ قَلَّمَا يَعْتَدِي عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَإِنِ اعْتَدَى عَلَيْهِ فَقَلَّمَا يَظْفَرُ بِهِ الْمُعْتَدِي وَيَنَالُ مِنْهُ مَا يُعَدُّ بِهِ ظَالِمًا لَهُ، فَأَنْتُمْ مَا ظُلِمْتُمْ بِإِخْرَاجِكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ إِلَّا لِضَعْفِكُمْ، وَسَيَأْتِي التَّذْكِيرُ بِذَلِكَ الظُّلْمِ فِي بَيَانِ الْإِذْنِ الْأَوَّلِ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ، فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ إِعْدَادَ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى الْجِهَادِ وَالْمُرَابَطَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يُمْكِنُ الْقِيَامُ بِهِ إِلَّا بِإِنْفَاقِ الْمَالِ الْكَثِيرِ، فَلِهَذَا رَغَّبَ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ، وَوَعْدَهُمْ بِأَنَّ كُلَّ مَا يُنْفِقُونَهُ فِيهَا يُوَفَّى إِلَيْهِمْ، أَيْ: يُجْزَوْنَ عَلَيْهِ جَزَاءً وَافِيًا إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كِلَيْهِمَا، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَطْ، كَمَا أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَ لِلْمُنَافِقِينَ: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [9: 52] الْآيَةَ. وَسَتَأْتِي قَرِيبًا فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ، وَالْحُسْنَيَانِ فِيهَا هُمَا: النَّصْرُ وَالْغَنِيمَةُ فِي الدُّنْيَا، وَالشَّهَادَةُ الْمُفْضِيَةُ إِلَى الْمَثُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ. فَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ بَذْلُ مَا يَكْفِي لِلْإِعْدَادِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، فَإِنْ لَمْ يَبْذُلُوا طَوْعًا وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ الْحَقِّ الْعَادِلِ إِلْزَامُ الْأَغْنِيَاءِ ذَلِكَ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ لِوِقَايَةِ الْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ، كَمَا قَالَ فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [2: 195] فَسَبِيلُ اللهِ هُنَا وَهُنَالِكَ هُوَ الْجِهَادُ الْوَاقِي لِأَهْلِ الْحَقِّ مِنْ بَغْيِ أَهْلِ الْبَاطِلِ- وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ عَامًا يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُوَصِّلُ إِلَى مَرْضَاتِهِ وَمَثُوبَتِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْإِذْنِ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ تَعْلِيلًا لَهُ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [22: 39- 41].
فَهَذَا هُوَ الْجِهَادُ الْإِسْلَامِيُّ، وَهَذِهِ هِيَ أَحْكَامُهُ وَأُصُولُهُ وَعِلَلُهَا، وَهِيَ فِي جُمْلَتِهَا وَتَفْصِيلِهَا تُفَنِّدُ تَقَوُّلَاتِ أَعْدَاءِ الْحَقِّ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ قَامَ بِالسَّيْفِ، وَغَلَبَ بِالْقَهْرِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ الَّتِي هِيَ أَسَاسُ أَحْكَامِ هَذَا الدِّينِ الْقَطْعِيَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، وَبِمَا تَوَاتَرَ مِنْ تَارِيخِهِ أَنَّهُ دِينٌ قَامَ بِالدَّعْوَةِ وَالْإِقْنَاعِ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهَذَا الدَّاعِيَ أَهْلُ بَيْتِهِ الْأَدْنَوْنَ: زَوْجُهُ الَّتِي كَانَتْ أَعْلَمَ النَّاسِ بِحَالِهِ، وَرَبِيبُهُ ابْنُ عَمِّهِ عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى، وَعَتِيقُهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ رضي الله عنه وَأَوَّلُ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ خَارِجَ بَيْتِهِ فَعَقِلَهَا وَفَقِهَ سِرَّهَا، وَأَدْرَكَ حَقِّيَّتَهَا وَفَضْلَهَا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ فَقَبِلَهَا بِلَا تَلَبُّثٍ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه وَمَا زَالَ جُمْهُورُ قَوْمِ الدَّاعِي صلى الله عليه وسلم يُؤْذُونَهُ وَيَصُدُّونَ عَنْهُ وَيَفْتِنُونَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ بِأَنْوَاعِ التَّعْذِيبِ، حَتَّى اضْطَرُّوهُمْ إِلَى الْهِجْرَةِ وَتَرْكِ دِيَارِهِمْ وَوَطَنِهِمْ، ثُمَّ هَاجَرَ هُوَ بَعْدَ ظُهُورِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِعَشْرِ سِنِينَ، ثُمَّ صَارَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَتْبَعُونَهُمْ إِلَى مُهَاجَرِهِمْ يُقَاتِلُونَهُمْ فِيهِ.
وَلَمَّا أَذِنَ اللهُ لَهُمْ بِالدِّفَاعِ بَيَّنَ حِكْمَتَهُ، وَأَنَّهُمْ مَظْلُومُونَ لَا ظَالِمُونَ، وَأَنَّهُ لَوْلَا هَذَا الدِّفَاعُ لَغَلَبَ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْبَاطِلِ وَالْخُرَافَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضَائِلِ، وَهَدَمُوا بُيُوتَ اللهِ تَعَالَى لِإِبْقَاءِ هَيَاكِلِ الْأَصْنَامِ وَبُيُوتِ الْأَوْثَانِ.
ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِإِبَاحَةِ الْقِتَالِ لَهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ عِنْدَ انْتِصَارِهِمْ وَتَمْكِينِهِمْ فِي الْأَرْضِ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ الَّتِي وَصَفَهَا اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ الَّتِي تَقُومُ بِهَا الْمَصَالِحُ الْمَعَاشِيَّةُ الْعَامَّةُ، وَيَزُولُ بُؤْسُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ بِمُشَارَكَتِهِمْ لِلْأَغْنِيَاءِ فِي أَمْوَالِهِمْ بِحُكْمِ اللهِ الْمُغْنِي لَهُمْ، لَا بِمُجَرَّدِ أريحَتِهِمْ وَتَفَضُّلِهِمْ، وَتَعَيَّنَ عَلَى السَّيَّاحَةِ بِكِفَايَةِ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَيُكَلَّفُونَ حِفْظَ الْفَضِيلَةِ وَمَنْعَ الرَّذَائِلِ بِإِقَامَةِ فَرِيضَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الشَّرِيفَةِ مِنْ إِبَاحَةِ الْجِهَادِ تُخَالِفُهَا الدُّوَلُ الْحَرْبِيَّةُ فَتُبِيحُ الْمُنْكَرَاتِ وَالْفَوَاحِشَ، وَتُفْسِدُ الْأَخْلَاقَ.
هَذَا أَوَّلُ مَا نَزَلْ مِنَ الْقُرْآنِ فِي شَرْعِيَّةِ هَذَا الْجِهَادِ الَّذِي يَعِيبُهُ الْمُتَعَصِّبُونَ الْمُرَاءُونَ مِنَ الْكُفَّارِ أَعْدَاءِ الْإِنْسَانِيَّةِ، ثُمَّ نَزَلَ مِنْ أَحْكَامِهِ مَا نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهِ، وَمِنْ أَهَمِّهِ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ الْأَوَّلُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ الْحَرْبِيِّ لِأَهْلِ الْحَقِّ إِرْهَابَ أَعْدَائِهِمْ أَهْلِ الْبَاطِلِ لَعَلَّهُمْ يَكُفُّونَ عَنِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا كَانَ أَهْلُ الْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ قَادِرِينَ عَلَى حِفْظِهَا بِالدِّفَاعِ عَنْهُمَا، وَإِضْعَافِ شَوْكَةِ الْبَاغِينَ الْمُبْطِلِينَ أَوِ الْقَضَاءِ عَلَيْهَا. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}
أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وأب يعقوب إسحاق بن إبراهيم القراب في كتاب فضل الرمي. والبيهقي في شعب الإِيمان عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة، ألا أن القوة الرمي ألا أن القوّة الرمي قالها ثلاثًا».
وأخرج ابن المنذر عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} ألا إن القوّة الرمي ثلاثًا، إن الأرض ستفتح لكم وتكفون المؤنة، فلا يعجزنَّ أحدكم أن يلهو باسهمه».
وأخرج البيهقي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه. أنه تلا هذه الآية: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة} قال: ألا أن القوّة الرمي.
وأخرج ابن المنذر عن مكحول رضي الله عنه قال: ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة، فتعلموا الرمي فإني سمعت الله تعالى يقول: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة} قال: فالرمي من القوّة.
وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة} قال: الرمي والسيوف والسلاح.
وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عباد بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه في قوله: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة} قال: أمرهم بإعداد الخيل.
وأخرج أبو الشيخ والبيهقي في شعب الإِيمان عن عكرمة رضي الله عنه في قوله: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل} قال: القوّة ذكور الخيل، والرباط الإِناث.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة} قال: القوّة ذكور الخيل، ورباط الخيل الإِناث.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه في الآية قال: القوّة الفرس إلى السهم فما دونه.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة رضي الله عنه في قوله: {ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم} قال: تخزون به عدو الله وعدوكم.
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإِيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم وهم يرمون، فقال: «رميا بني إسمعيل لقد كان أبوكم راميًا».
وأخرج أبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة. صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير، والذي يجهز به في سبيل الله، والذي يرمي به في سبيل الله. وقال: ارموا واركبوا وان ترموا خير من أن تركبوا، وقال: كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثة، رمية عن قوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله فإنهن من الحق، ومن علم الرمي ثم تركه فهي نعمة كفرها».
وأخرج عبد الرزاق في المصنف والبيهقي في شعب الإِيمان عن حرام بن معاوية قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا يجاورنكم خنزير، ولا يرفع فيكم صليب، ولا تأكلوا على مائدة يشرب عليها الخمر، وأدبوا الخيل، وامشوا بين الفرقتين.